بسم الله الرحمن الرحيم
إن اكتشاف تراثنا النوبي لا يمكن أن يتحقق بالعمق والشمولية التي يتحقق بها إلا عبر اكتشافه في أنفسنا، من خلال ما تثمره أيدينا اليوم، أما إذا بقينا عاجزين عن ذلك الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفني الذي يرقى إلى المستوى الذي يخوله أن يكون منظار الماضي (بقدر ما هو شق طريق للمستقبل) فهذا يعني أننا لن نستحق يوماً أن ندعي الانتماء إلى ذاك التراث، وفي المقابل سوف يبقى هذا التراث في منأى عن فهمنا الكامل له.
إن النظرة الوحيدة الثاقبة الأمينة إلى التراث، هي التي لا تتم إلا عبر إنسان اليوم. التراث هو أولاً نحن أبناء النوبة الأحياء، والتراث الذي لا يكون له أثر باق في الناس رغم مرور زمن ما، يكون تراثاً اندثر أو كاد، وفقد أي حضور فاعل في الحضارة الإنسانية. وإذا كان التراث قوة حية، فلا بد أن يكون في المخلوقات، بقدر ما يكون في المخطوطات.
هناك أمم فقدت العلاقة بتراثها وليس أدل على هذا الانقطاع أكثر من فقدانها القدرة على العطاء اليوم، فالأمة التي لا تستطيع أن تعطي اليوم، لا تستطيع أن تقيم صلة مع الأمس.. لا، بل لا تستطيع أن تمتلك الأمس، ولا أن تدعيه ملكاً وتكون على درجة كافية من الإقناع في إدعائها.
فقد تكون هناك مقارنة ذات دلالة حقيقية في موضوع علاقة الأمة بتراثها، هي المقارنة بين إيطاليا واليونان بتراثيهما. لقد كان لليونان في الفكر والفن بعض أغنى مظاهر العطاء في الحضارة الإنسانية، لكننا لم نشهد لهذا العطاء آثاراً كبيرة بعدما انقضت مرحلته المبكرة منذ آلاف السنين، على عكس إيطاليا التي استطاعت عبر مراحل نهضوية عديدة وحتى يومنا هذا، أن تجدد العطاء، ويكون لعطائها بشكل أو بآخر سمة من سمات حضارتها الرومانية القديمة. وهذا لم يحدث في أمم أخرى كثيرة ونحن منها كان لها مجد حضاري في يوم من الأيام. وربما من جملة ما نستطيع أن نعرف به الفولكلور بأنه تراث انقطعت الصلة الحية والإبداعية به، فأصبح زينةً وتذكاراً لماض اندثر، يستخدم في المناسبات والاحتفالات من دون دلالة حاضرة،
وإذا كان التراث مخزوناً نفسياً فهو شبيه في حضوره لدى الذات الإنسانية بالمخزون الإبداعي فناً أو أدباً أو علماً، أو أي خيال خلاق من أي نوع كان. فلا بد إذن أن يكون حاضراً كبنية حية متحركة ومتحولة في كل منا بشكل أو بآخر، بقدر أو بآخر. وإن كان التراث مخزوناً يشابه المخزون الإبداعي الفني لدى الشاعر أو الرسام أو غيرهما، فهذا يعني أن الاتصال به واستدراره من ذواتنا لا بد أن يتسم بصفات العملية الإبداعية الحقيقية نفسها، وشرطها الأول الصدق مع الإحساس، والصدق مع الإحساس سوف يكون اتصالاً مع التراث فينا، وهو أيضاً اتصال مع العصر فينا. فإذا كان التراث هو نحن أبناء النوبة الأحياء، فإن العصر – بقدر ما نحن فيه – هو نحن النوبيين الأحياء أيضاٍ وكل عملية أبداعية حقيقة لابد, أن تكسب سماتها من الاثنين معاً، مع تلوينة إضافية تكتسبها من ذات المبدع كفرد له نشأته الخاصة. فهل نحن اليوم لنا إبداع صادق نقوم به اليوم، وهل تراثنا النوبي هو تراث مخطوطات أم تراث مخلوقات؟ وعندما نصل نحن أبناء النوبة إلى إجابة واضحة وصريحة لهذا السؤال علينا أن نلحق قطاراً كاد أن يفوتنا بل كاد أن يدهسنا تحت عجلاته وأختم موضوع بأن :
الأمة التي لا تستطيع أن تعطي اليوم، لا تستطيع أن تمتلك الأمس